الاقتصاد رهان على المستقبل.. والمستقبل محفوف بالمخاطر!
أكتوبر 2002
يكثرالحديث هذه الأيام عن قروض متعسرة لدى البنوك، وتضييق فى الائتمان المتاح للأفراد والمشروعات، وتعثر فى السداد، ونقص فى السيولة. وكلها أمور تشير إلى
المحـتــوي
يكثرالحديث هذه الأيام عن قروض متعسرة لدى البنوك، وتضييق فى الائتمان المتاح للأفراد والمشروعات، وتعثر فى السداد، ونقص فى السيولة. وكلها أمور تشير إلى اضطراب فى أسواق الائتمان، فالبنوك تجد صعوبة فى استيفاء حقوقها لدى الأفراد والمشروعات، وهؤلاء بدورهم يجدون صعوبة من البنوك فى تجديد تسهيلاتهم وتشددًا فى منح تسهيلات جديدة. وهكذا يدور الجميع فى حلقة مفرغة.. فما هو أصل الحكاية؟
ليس من السهل رد هذه الأمور إلى سبب واحد. فلابد أنه تكاتفت عوامل متعددة ساعدت على خلق هذا الوضع المتأزم، وقد ترتب على هذه الأوضاع أن تقلصت الأعمال، واتجه المتعاملون فى الأسواق إلى تفضيل المعاملات نقدًا، وبدأ الائتمان فى التراجع، فلا البنوك تقبل ـ بسهولة ـ منح تسهيلات جديدة للمتعاملين، ولا التجار يقبلون ـ عادة ـ البيع مع تسهيلات فى السداد. وهكذا بدا أن التعامل النقدى In Cash يكاد يصبح الأصل، ويتراجع دور الائتمان أو الدفع الآجل إلى حدود ضيقة. وفى هذا خطر كبير على النمو الاقتصادى. فالائتمان، قد أصبح ـ إلى حد بعيد ـ أساس الاقتصاد المعاصر، ولا يمكن أن يستمر الازدهار الاقتصادى مالم يستعد الائتمان دوره وأهميته فى النشاط الاقتصادى. هذه إحدى بدهيات الاقتصاد. ولكن لا بأس من ترديد هذه البدهيات. فقد أثبتت التجربة، أن أكبر المشاكل وأخطرها تأتى عندما نتجاهل البدهيات والمبادئ الأولية. ولذلك لا نرى ضررًا كبيرًا من إعادة التذكير بهذه البدهيات، بل قد يكون هناك بعض النفع من وراء ذلك.
الاقتصاد تعامل مع المستقبل:
نقطة البدء فى فهم النشاط الاقتصادى هى أن ندرك أن هذا النشاط هو بطبيعته، نشاطٌ ممتد فى الزمن، وأن العائد من وراء أى جهد لا يأتى معاصرًا لبذل هذا الجهد، وإنما يتحقق فى فترة زمنية لاحقة. ومن هنا فإن جوهر النشاط الاقتصادى هو المقامرة على المستقبل، والرهان عليه. الأمر الذى يتطلب الثقة فى هذا المستقبل، والثقة فى المتعاملين. فالحديث عن المستقبل، هو حديث عن المخاطر وعدم اليقين. فالمستقبل مشوب دائمًا بكل أنواع الاحتمالات. ولذلك فإن التعامل مع المستقبل يتطلب توافر درجة معينة من الثقة فى النجاح والرهان عليها. وما لم تتوفر هذه الثقة توقفت الأعمال أو تضاءلت إلى حد بعيد.
فانظر إلى الزراعة مثلاً. فهى ليست عملاً لحظياً يتم وينتهى فى لحظة، بل لابد من بذل الجهد أولاً ثم ظهور النتيجة فى وقت لاحق، بعد مرور وقت قد يطول أو يقصر بحسب طبيعة المحصول. فالزارع يبذر البذور بعد أن يمهد الأرض ويحرثها، وعليه أن يواليها بالرى والرعاية وربما تغذيتها بالأسمدة والمخصبات، وفى النهاية يظهر المحصول والعائد. وقبول الزارع بذل الجهد والمال فى أول الأمر، إنما هو رهان على المستقبل، وإدراكه أن هذا الجهد والمال سوف يكافأ فى النهاية بظهورالمحصول وتعويضه عما بذله من جهد ومال، وهذا الرهان إنما هو نتيجة لثقة فى الأرض لتجارب سابقة ناجحة. وثقته فى العمالة وقدرتها لخبرته الطويلة فى هذا النشاط استمدها من خلال أجيال متعاقبة. وهكذا فإنه بدون هذه الثقة ما قامت زراعة. وقل نفس الشيء عن الصناعة. فصاحب المشروع يوفر رأس المال، لشراء الأرض وإقامة المبانى والمنشآت وتركيب الآلات والأجهزة، ثم تقتضى بداية الإنتاج الإنفاق على أجور العمالة والموظفين، وشراء المواد الأولية والمصاريف العمومية، وفى النهاية فقط، تظهر النتيجة عندما يظهر إنتاج المصنع ويتم بيعه فى السوق وتحصيل حصيلة البيع.. وهنا أيضًا، لا يمكن أن يتحقق إنتاج صناعى، مالم تكن هناك ثقة فى المستقبل، وثقة فى المشروع، وفى سلامته الفنية، وفى توافر الأسواق للمنتج النهائى. فالثقة فى المستقبل هى أساس الصناعة كما كانت أساس الزراعة. ومادام النشاط الاقتصادى نشاطًا ممتدًا فى الزمن، تتعلق النتائج فيه بالمستقبل، فإنه لا أمل فى نشاط اقتصادى مزدهر مالم تتوافر ثقة المتعاملين فى هذا المستقبل، والثقة فى الأوضاع بشكل عام؛ والثقة فى الآخرين وقدرتهم على الوفاء بالتزاماتهم، والثقة فى الاستقرار القانونى وقدرته على حماية حقوقهم، والثقة فى الاستقرار النقدى وعدم تدهور قيمة النقد، والثقة فى النظام السياسى وعدم تعرضه للقلاقل والهزات، وهكذا.
ولكن الأمر لا يقف عند حد امتداد النشاط الاقتصادى زمنياً، بل إن تجربة معظم المجتمعات البشرية أظهرت انقسام الأفراد إلى مجموعتين، مجموعة قادرة على أن توفر جزءًا من دخلها فى شكل فائض، أو مدخرات، فى حين أن مجموعة أخرى ـ أقل عددًا ـ من الأفراد الذين لديهم أفكار لمشروعات ولكن ينقصهم المال، وهؤلاء يطلق عليهم اسم الوحدات العاجزة Deficit Units، بالمقابل بالمجموعة الأولى وهى جموع المدخرين أى الوحدات الفائضة Surplus Units. وليس من الضرورى أن تكون هذه المدخرات كبيرة، بل قد تكون صغيرة بالنسبة لكل فرد على حدة، ولكنها تمثل حجمًا كبيرًا إذا أخذنا مجموع هؤلاء من صغار المدخرين. وفى المقابل فإن مجموع الوحدات العاجزة تمثل جمهور المستثمرين من أصحاب المشروعات والأفكار التى يحتاج تنفيذها إلى أموال ومدخرات تجاوز طاقة وإمكانية هؤلاء المستثمرين. ومن هنا فإن مصلحة الاقتصاد هى أن تنتقل هذه المدخرات من الوحدات الفائضة إلى الوحدات العاجزة. بحيث تتنازل الوحدات الفائضة ـ المدخرون ـ عن أموالها لكى تستخدمها الوحدات العاجزة ـ المستثمرون ـ مقابل ضمانات يقدمها هؤلاء المستثمرون برد هذه الأموال مع العائد فى وقت معين، أو بالسماح لهم بالمشاركة فى ملكية المشروعات وأرباحها. وهذا أمر لا يمكن أن يتحقق ما لم تتوافر ثقة المدخرين فى أن حقوقهم لن تتعرض للضياع أو التبديد. وهنا أيضًا نجد أن قدرة الاقتصاد على تحقيق المدخرات، وعلى حسن استخدام هذه المدخرات فى استثمارات ناجحة، تتوقف على مدى توافر الثقة فى أن هذه الحقوق غير مهدرة. أما كيف يتم ذلك؟ وهناك مجموعة كاملة من الهياكل المالية المتكاملة التى تساعد على تحقيق هذه الحماية وتوفير الثقة للمتعاملين. هناك مؤسسات مالية متخصصة من بنوك وشركات تأمين وصناديق وبورصات وشركات تقييم ومؤسسات للمحاسبة والمراجعة. وهناك أدوات مالية متنوعة من أسهم وسندات وخيارات