أفكار دافع عنها سعيد النجار..اقتصاد السوق والليبرالية السياسية
مايو 2004
لن أحاول أن أعدد، من جديد، صفات الرجل ومزاياه، فهذا أمر تناولته أو سوف تتناوله أقلام العديدين من محبيه ورفاقه. ولكنني فضلت اختيار قضية أو قضيتين وقف الرجل
المحـتــوي
لن أحاول أن أعدد، من جديد، صفات الرجل ومزاياه، فهذا أمر تناولته أو سوف تتناوله أقلام العديدين من محبيه ورفاقه. ولكنني فضلت اختيار قضية أو قضيتين وقف الرجل وراءهما بكل قوة ودافع عنهما بصلابة وقوة ومنطق وذلك مع محاولة استجلاء بعض الأمور حولها. فرغم أن هذه القضايا مهمة، فإن ذلك لم يمنع من أن اختلط بهما الكثير من سوء الفهم، مما قد يحتاج إلي بعض التوضيح.
لقد دافع سعيد النجار، خلال حياته - في دروسه أستاذاً في الجامعة، أو مفكراً ينشر آراءه في الصحف أو الندوات - عن قضيتين أساسيتين، وهما اقتصاد السوق والليبرالية السياسية.
وقد عانت كل منهما من الكثير من سوء الفهم وغير قليل من التشويه أو التشويش. ولذلك، فقد يكون من المفيد، في مناسبة رثاء الفقيد الكبير، إعادة توضيح هذين المفهومين بإزالة بعض اللبس حولهما. فليس الغرض معاودة الحديث عن اقتصاد السوق أو الليبرالية في عمومهما، وإنما فقط التعرض لبعض الأمور التي ثار حولها الجدل وأحياناً سوء الفهم. ولعلنا بهذا نعمل علي توضيح رسالة الفقيد والتأكيد علي الدعوة التي عمل من أجلها.
أولاً: عن اقتصاد السوق:
لست هنا في مجال إعادة ترديد ما تورده كتب مبادئ الاقتصاد عن هذا الموضوع. ولكني أود أن أزيل بعض اللبس عن عدد من الأفكار غير الدقيقة، التي تثار بمناسبة كل ما يقال عن «اقتصاد السوق»، وخاصة فيما يتعلق بعلاقة «اقتصاد السوق» «بالرأسمالية» ومظالمها الاجتماعية، وبدور الدولة بالنشاط الاقتصادي، وما يقال عن انعدام التخطيط، وغلبة العشوائية علي اقتصاد السوق.
وهي انتقادات كثيراً ما وجهت إلي كل من يدعو إلي الأخذ باقتصاد السوق، ولم يكن سعيد النجار بعيداً عن هذه الانتقادات.
اقتصاد السوق ومظالم الرأسمالية:
كلنا يعرف تاريخ الرأسمالية، وما حققته من إنجازات من ناحية، وما ترتب عليها من تضحيات وآلام وظلم اجتماعي من ناحية أخري. فالرأسمالية - وقد قامت علي أكتافها الثورة الصناعية بدءاً بإنجلترا في منتصف القرن الثامن عشر - أنجزت للبشرية تقدماً اقتصادياً مذهلاً في زيادة الإنتاجية وارتفاع معدلات النمو وتحقيق اختراقات تكنولوجية ضخمة، وانتقلت المجتمعات الأوروبية معها من مرحلة حضارية غلبت عليها الزراعة إلي مرحلة حضارية أرقي مع الصناعة. ولكن هذه الإنجازات لم تكن مجاناً أو بلا ثمن، وإنما صاحبها ثمن باهظ تمثّل في تضحيات إنسانية بالغة، وظلم اجتماعي غير قليل. وقد ظهر ذلك، بوجه خاص، في بدايات الثورة الصناعية، حيث عرفت الطبقة العمالية استغلالاً بشعاً، وعاشت في ظروف حياتية بائسة؛ أجور منخفضة، تكدس في المدن، تدهور في الأوضاع الصحية، تشغيل الأطفال والنساء في ظروف غير إنسانية. وتم كل ذلك في غيبة من نظام سياسي ديمقراطي كامل وفعال يدافع عن حقوق الفقراء، ونتيجة جشع الرأسماليين، ورغبتهم في الكسب والمنافسة للاحتفاظ بالأسواق. وقد كتب كارل ماركس - وأتباعه - الكثير عن هذه المظالم الاجتماعية التي صاحبت الرأسمالية الأولي، وإن كان لم ينكر أيضاً التقدم الاقتصادي الذي حققه هذا النظام في الوقت نفسه. وكانت كتابات الأدباء - وخاصة الإنجليز مثل شارلز ديكنز - تعبيراً عن المظالم الاجتماعية التي عاشتها الطبقات الفقيرة في ظل هذه الثورة الصناعية والنظام الرأسمالي.
كل هذا معروف، ولا حاجة بنا إلي التذكير به. ولكن أهميته في صدد حديثنا عن سعيد النجار، هو أن كل حديث عن «اقتصاد السوق» يعيد إلي الأذهان، بشكل واع أو غير ذلك، ذكري هذا التاريخ المؤلم للرأسمالية في مراحلها الأولي. ومن هنا يثور التساؤل: هل الدعوة إلي اقتصاد السوق هي أيضاً دعوة إلي استعادة هذه المظالم؟ وهل هذا الثمن الفادح، أمر ضروري لكل مجتمع يأخذ بهذا النظام؟ وكيف يطلب منا سعيد النجار أن نقبل بمثل هذا النظام إذا كانت نتيجته هذه المظالم الاجتماعية؟
ونبدأ بالقول أن المظالم الاجتماعية في الاستغلال، بصفة عامة، وسوء أوضاع الطبقة العمالية بوجه خاص - ورغم أنها حقيقة تاريخية - إلا أنها ليست بالضرورة مرتبطة بطبيعة النظام الرأسمالي في ذاته، بقدر ما هي مرتبطة بمراحل الثورة الصناعية الأولي، وبدء التصنيع بشكل عام. فالانتقال من مجتمعات ما قبل الصناعة - الزراعة - إلي التصنيع، يتطلب توفير مدخرات عالية للاستثمار الصناعي الجديد، وهذا يتطلب بدوره، فرض قيود شديدة علي الاستهلاك وبالتالي علي مستوي المعيشة، وهي قيود تفرض - عادة - علي الأغلبية وهم من الفقراء. ولذلك فإن هذه التضحيات والمظالم الاجتماعية لم تكن حكراً علي الدول الرأسمالية بل إن ما عرف من تضحيات وآلام في الدول الاشتراكية عند بدء ثورتها الصناعية لم يكن أقل قسوة أو ظلماً. فعندما حاول ستالين بدء عملية التصنيع المكثّف اعتباراً من عام 1929 مع بدء الخطط الخمسية، فإنه طبق نظاماً صارماً علي الاقتصاد السوفيتي، بغرض ضغط الاستهلاك إلي أدني الحدود. فكان أن فرض نظام المزارع الجماعية وتعميمه علي مختلف الجمهوريات السوفيتية، وعرف المجتمع السوفيتي في ذلك الوقت ولسنوات طويلة، درجة من التضحيات في الأجور وفرض العمل القسري والتهجير،مما ترتب عليه تضحيات اجتماعية صارخة راح من ورائها عشرات الملايين من البشر. وقد عاصر هذا التحول إلي الصناعة نوع من الإرهاب السياسي فيما عرف آنذاك بمحاكمات التطهير. وهكذا، فقد جاء التحول الصناعي في دولة الاشتراكية الأولي، مصاحباً لمظالم اجتماعية وبؤس عام، تتضاءل معها كل قصص الظلم الاجتماعي التي تحدث عنها ماركس في كتاباته أو منشوراته أو كتب عنها ديكنز في رواياته. وإذا كانت التضحيات السوفيتية في الثلاثينيات من القرن الماضي عند بدء التصنيع المكثف، لا ترجع كلها إلي احتياجات التحول إلي الصناعة، بل تعكس - إلي حد بعيد - الطبيعة القاسية لستالين، فإن تجربة الصين في التحول إلي الصناعة، مع ماوتسي تونج، لم تكن أكثر رحمة. فقد عرفت الصين، بعد ثورة التحرير، عدة أزمات زراعية صاحبتها مجاعات، وخاصة في فترة ما عرف بالثورة الثقافية في الستينيات من القرن الماضي. وهكذا يتضح أن الكثير من التضحيات والمظالم الاجتماعية، التي عرفتها الرأسمالية الأولي، لم