شـــارون ..صــــورة الســيـاسي
ديسمبر 2004
ذهب عرفات.. أو لم يذهب. وعاد بوش.. أو جاء غيره. فالثابت أن شارون (شخصًا أو سياسة) باق في خلفية المشهد الشرق أوسطي.
في دراسة إسرائيلية نشرت حديثًا عرفنا
المحـتــوي
ذهب عرفات.. أو لم يذهب. وعاد بوش.. أو جاء غيره. فالثابت أن شارون (شخصًا أو سياسة) باق في خلفية المشهد الشرق أوسطي.
في دراسة إسرائيلية نشرت حديثًا عرفنا أن الميجور جنرال أرييل شارون فكر جديًا في «حبس» أعضاء الحكومة الإسرائيلية في غرفة ليتمكن من شن الحرب علي مصر عام 1967 دون الحاجة لموافقتهم!!
هذا هو شارون؛ الباقي بعد عرفات. وهنا فصل من كتاب يصدر قريبًا للأكاديمي الفلسطيني البارز (عضو الكنيست الإسرائيلي) عزمي بشارة.
لا يعكس التقلب في صورة السياسي من تضخيمٍ إلي تحطيمٍ، خاصية الإعلام الإسرائيلي، الذي يبني تمثالا لفلان ثم يحطمه قبل أن يجف طينه فحسب، وإنما يعكس أيضا نزعات متصارعة فعلا في المزاج السياسي الإسرائيلي بين تمجيد ماضي رجل السياسة العسكري بدون قيد أو شرط، وبين المطالبة بمؤهلات مدنية تتجاوز ذلك من أجل إدارة المجتمع والدولة، بين الحنين إلي فردوس الاستيطان الزراعي العسكرتاري المفقود والذي يذكر به الجنرالات ذوو الصوت الأجش والأيدي الخشنة، وبين متطلبات الحياة المدنية المركبة.
وهكذا لم يمنع ذم عقلية الآمر العسكري لدي باراك من انتخاب جنرال آخر مغامر متقاعد لرئاسة الحكومة الإسرائيلية. وتختلط في صورة شارون الشعبية المتخيلة صفات مطلوبة في مرحلة الصدام مع العرب، مثل: الحزم في التعامل مع العرب بالقوة إذا لزم، والماضي العسكري المغامر المختلط في الخيال الشعبي بصورة بطل هوليوودي أو«شيرف» يحارب الأشرار بطريقته دون أن يلتزم بالتعليمات والقوانين الشكلية إذا تطلب الأمر ذلك، والاستخفاف بالبيروقراطية الحكومية وتنفيذ المهام المطلوبة مباشرة كالـ «بولدوزر». هكذا عندما كان شارون وزيرا للزراعة، ثم للإسكان، وأيضا عندما كان وزيرا للبني التحتية. ناهيك عن الاستيطان والأمن.
والحقيقة أن عقلية الرجل استيطانية خالصة، والـ «بولدوزر» من رموز الاستيطان التي تشق الطرق وتزيل العوائق (مثل العرب) دون أخذ أي أمر بعين الاعتبار سوي خدمة الهدف، ألا وهو الانتشار اليهودي الاستيطاني في البلاد، وإقامة بُنَاه التحتية الاقتصادية. ولذلك، فإن توجهات شارون دولانية رسمية، بحتة وأصوله الثقافية السياسية في الصهيونية العمالية، حيث الدولة هي أداة الاستيطان وإرساء البني التحتية، وهي أداة الحرب دون منازع.
مقابل هذه الصورة الشعبية تبرز أيضا الصورة التي يرسمها اليسار الصهيوني الذي هيمن فترة طويلة علي ثقافة البلاد، ثم انحسرت هيمنته في ثقافة النخبة التي يسقط بموجبها قسم كبير مما يخجل فيه من ماضيه علي الآخر، أي علي اليمين الصهيوني. هكذا تتجمع صور كل المذابح التي نفذتها الـ «هغناه» ليختزل الغضب عليها في مذبحة دير ياسين التي قام بها اليمين (الايتسل). ولذلك أيضا، تتكثف كل نزعات العسكرتارية المغامرة بدءا بتمجيده للجندي العبري (الإنسان اليهودي الجديد بلغة بن جوريون) وانتهاء بالتسلل إلي خلف خطوط «العدو» لذبح المدنيين انتقاما وتتجسد في عسكريين مثل شارون ورفائيل إيتان، والحقيقة أن هذه النزعة لم تقتصر علي اليمين في يوم من الأيام. وما كانوا إلا جنودا نفذوا أوامر زعماء مثل بن جوريون. لقد تبين أن قتل المدنيين في مذبحة قبية مثلا انسجم مع أمرٍ بن جوريوني مباشر.
شارون الذي يؤمن «بالتنازلات المؤلمة»، كما تسمي في القاموس الإسرائيلي، وفي قاموسه هو بشكل خاص، إعادة أجزاء صغيرة من الأرض لأصحابها بعد سلبها منهم بقوة السلاح، في سياق تحقيق السلام مع العرب، يعرف جيدا أن تنازلاته هذه لا تعتبر تنازلا، كما لا تعتبر كافية حتي بنظر العرب أصحاب الخيار الإسرائيلي الذين خفتت أصواتهم إبان الانتفاضة. ولذلك، فإن شارون اقترح المرحلة الانتقالية طويلة المدي في محاولة لإحلال «البراغماتية أو التوجه الواقعي» محل برنامج السلام كبرنامج سياسي. وعندما لم يلق اقتراحه تجاوبا فلسطينيا طرح شارون فكرة فك الارتباط من طرف واحد.
وقد أثارت تصريحات شارون في جلسة كتلة الـ «ليكود» في الكنيست يوم الاثنين 26 أيار 2003، ضجة كبري في الأوساط السياسية العربية والإسرائيلية. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلي قد صرح في معرض رده علي نواب الـ«ليكود» الذين هاجموا قرار حكومته بتبني «خارطة الطريق» ما يلي: «من المفترض برأيي أن نتوصل إلي تسوية. سأقوم بكل جهد من أجل التوصل إلي تسوية سياسية، لأنني أعتقد أن التوصل إلي تسوية سياسية مهم لإسرائيل. أنا أعتقد أيضا أن الآراء والأفكار الذاهبة إلي أنه من الممكن أن نواصل الإمساك بثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني تحت الاحتلال- تحت الاحتلال نعم، من الممكن ألا نحب الكلمة، ولكن هذا ما يحدث: تحت الاحتلال. وهذا برأيي أمر سيئ لإسرائيل أيضا وللفلسطينيين ولاقتصاد إسرائيل، هذا لا يمكن أن يستمر بلا نهاية. تريدون أن تبقوا بشكل دائم في جنين، في نابلس، في بيت لحم، دائما؟ لا أعتقد أن هذا صحيح».
وقد أثارت كلمة «الاحتلال» جلبة خاصة، كما ألهبت لفترة قصيرة «قبول» الحكومة الإسرائيلية خارطة الطريق في اليوم الذي سبقه ـ أي الأحد 25 أيار2003 ـ خيال المعسكر العربي المتحمس للتحركات الأمريكية بعد العراق. في اليوم التالي اتصل المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية اليكيم روبنشطاين برئيس حكومته وطلب منه عدم استخدام مصطلح «المناطق المحتلة» بل «المناطق المتنازع عليها»، وأن مفهوم المناطق المحتلة يفيد العرب في المفاوضات.
والحقيقة أن شارون لم يكن بحاجة إلي هذا التحذير، فهو لم يستخدم مصطلح المناطق المحتلة، بل تعامل مع عبارة «3.5 مليون فلسطيني تحت الاحتلال». وقد أوضح ذلك أيضا في جلسة لجنة الخارجية والأمن في الكنيست في اليوم التالي. وتنسجم هذه العبارة مع تصور شارون للحل السياسي وللتسوية. وقد طرح شارون تصوره للتسوية طيلة خمسة عشر عاما. ويقوم التصور بأكمله علي عدم إمكانية السيطرة إلي الأبد علي السكان الفلسطينيين والحفاظ علي حكم إسرائيلي عليهم لفترة طويلة، علي الرغم من قناعته بضرورة استخدام القوة طالما كانت السيطرة ضرورية. من هنا جاء تصور يجئال ألون «لحل وسط إقليمي» «يعيد» المناطق المكتظة بالسكان إلي الأردن، ومن هنا أيضا جاء