العـرض التليفزيوني الأخيــر... الخـروج من غــزة!
أكتوبر 2005
لم يكن أسبوع فك الارتباط الإسرائيلي عن غزة أكبر حملة عسكرية غير حربية يقوم بها الجيش منذ أن أقامه بن غوريون فحسب، بل كان أيضًا أكبر عرض «ريالتي تي. في.»
المحـتــوي
لم يكن أسبوع فك الارتباط الإسرائيلي عن غزة أكبر حملة عسكرية غير حربية يقوم بها الجيش منذ أن أقامه بن غوريون فحسب، بل كان أيضًا أكبر عرض «ريالتي تي. في.» في التاريخ منذ أن بدأ الناس بالتصرف والتحدث كأن هنالك كاميرا حاضرة طيلة الوقت كأمر طبيعي، فغيروا من لهجتهم، أصبحوا أكثر دراماتيكية وأكثر كلاشيهيةً كأنهم «بوستر» أو «ستيكر» أو «ساوند بايت» تسويقي متجول، ومنذ أن شاهد آخرون كيف عليهم أن يتصرفوا في حالة الغضب والحزن والفرح فتصرفوا بموجب صورتهم التي رأوها في الإعلام، فتم نسخ وتناسخ الناس في هندسة جنكولوجية ــ تلفزيونية أو للاختصار «جنزيونية».(سجل براءة اختراع)!!
في أسبوع دراما فك الارتباط مع الواقع وتوثيق الارتباط مع الصور عن الواقع، وفي تسلسل وقائع الدراما وفصولها من ملصقات المستوطنين إلي المواجهة المخرجة إخراجًا محرجًا بين المستوطنة والجندي المطأطئ الرأس ليس خجلا، بل لأن عليه حسب السيناريو أن يبدو خجلا ومتألما لما يفعل، وهي تصرخ بابنها بهستيريا: «عندما تكبر لا أريدك أن تكون مثل هذا الجندي بل أن تكون جنديا يدافع عن الوطن!»، والطفل الذي دربه المستوطنون أن يصرخ علي الجندي الذي يضبط أعصابه، ليس لأنه يجد صعوبة في ضبطها بل لأن عليه أن يبدو رابط الجحش، عذرا الجأش، فالحديث هو عن جنود رابطي الجأش، وهكذا يجب أن يتصرفوا فيعيدوا إنتاج صورتهم، وكون بعضهم قد صدقها لا يغير من كونها صورة. يصرخ الطفل ليحتار المشاهد بين الطفل البريء والجريء وبين الجندي الرابط الجأش، ليس لأن لا جأش له، بل لديه جؤوش. ولكن جهاده الأكبر علي وزن لغة منتجي الصور عندنا هو أن يربطه فيحكم ربطه: «هل غسلوا دماغك، لماذا لا تنظر في عيني؟» وفي هذه الحالة يكرر الطفل جملة علي أحد ملصقات حملة المستوطنين الموجهة للجنود من نوع «أخي أنظر في عيني!!»، هذا إضافة إلي: اللعب بالكلمات والصور المستوحاة من مكاتب الدعاية والتسويق من نوع صورة خلفية لجندي ينظر إلي مستوطنة وفي أسفلها جملة: «لكي لا تستوطن لك علي ضميرك»، وصورة طفلة زرقاء العينين مع نفس الجملة، يضاف إلي ذلك الدعاية الحكومية تحت شعارات عائلية تميز الأخوة أو الأخويات الهوليوودية علي الأقل، من نوع: « المهم ألا نفك ارتباطنا ببعض»، أو «لنعبر هذه المحنة سوية» أو «تساف بِيوس»، (أمر مصالحة) علي وزن «تساف جِيوس» (أمر تجنيد)، وهو ملصق ودعاية تلفزيونية حكومية بنفس نوع ولون خط الرسالة التي تصل للجندي عند دعوته للخدمة وقت الحرب.
يضاف إلي ذلك ملصقات بالبرتقالي علي السيارات من كافة الأنواع: «الشعب مع جوش قطيف»، «أين اختفي الخجل؟»، «اقتلاع المستوطنات انتصار للإرهاب»، ومقابلها بالأزرق: «تفكيك المستوطنات خيار الحياة»، «نخرج من غزة ونبدأ الكلام»، «ليعد الأبناء إلي حدودهم، نخرج من غزة ونحمي البيت»...وعنوان الحملة العسكرية الرسمي لتفكيك المستوطنات: «يد للأخوة»، وكلمة يد هنا هي اختصار عبري لمد يد المعونة.
ويضاف إلي هذا كله مقالات كبار الكتاب المعارضين للاستيطان في الصحف الإسرائيلية الثلاث المشاركين في الدراما الرخيصة، الذارفين دمعة مع العائلة، لأن العائلة كلها في حداد تضامنًا مع حداد أحد أفرادها. ولكي تجتاز العائلة المحنة بسلام لا تجوز الشماتة. ومقال خافير سولانا في هآرتس، بعد مقابلة جورج بوش...في فزعة دولية لشارون علي مستوي رأيه العام، مع وعود للإسرائيليين أن الكرة ستكون في الملعب الفلسطيني وأن الامتحان القادم هو امتحان الفلسطينيين.
ثم قبل الحملة بيوم خرجت الصحف عن طورها لأن المنافسة بينها علي أشدها ولأنها تريد أن تبيع: صورة جندية، جميلة، بعين من وضعها علي الأقل، ببلوزة تريكو عسكرية بسيطة وجريئة بالنسبة للباس العسكرية ولكنها تحمل كتاب التوراة مفتوحا وتقرأ بتمعن. طبعا ربما لا تري سطرًا واحدًا أثناء التصوير المهم أنها تبدو علمانية متحررة تقرأ التوراة في هذا اليوم. لا ندري ماذا نفعل بكمية الرخص الذي فاض علينا من ثنايا الصحف الحرة، إلي أن وردت صورة تحمل ألف معني من صحافة الجهة الأخري: صورة لا يمكنك أن تقشرها لكثرة طبقات القشور ولكثرة طبقات الوهم والعوالم الافتراضية المتضمنة فيها. قادة السلطة الفلسطينية في غزة يقصون شريطا( شريط فعلي، وقد حسبنا أن عادة الشريط والوسادة والمقص قد اختفت من الدنيا) يطلون برؤوسهم من فوق الشريط والمقص وحامله. تجمعوا وتصوروا لافتتاح مقر...مقر ماذا؟ مقر مركز البث الإعلامي المباشر الذي أعد خصيصًا لنقل أخبار فك الارتباط. علي الصفحة الأولي. هل أنت معي عزيزي القارئ؟ يتم افتتاح مركز إعلامي من النوع الذي يقام في بلدان مختلفة عند انعقاد قمة أو ألعاب رياضية دولية موسمية أو غيرها. ولكنه يفتتح هنا بمقص وشريط من قبل أعلي مستوي في السلطة كأنه صرح وطني أو منشأة صناعية أو ثفافية. وهو مقر للبث الإعلامي لتغطية الحدث. وللصورة هنا أكثر من مغزي. فمجمل ما قام به العرب هو رد فعل أو تفسير لخطوة شارون وذلك دون أن يسألهم أحد. ولم يهم شارون هل يحتفلون أم يحدون. قرروا اقتحام الدراما الإسرائيلية العالمية التي اخرجت وانتجت دون فلسطينيين ودون عرب بالاحتفالات. واختلفوا علي سبب الاحتفال، هل السبب هو انتصار المقاومة أم انتصار عملية السلام. واتفق العالم معهم أن هنالك سبباً للاحتفال وأن عليهم أن يقابلوا الحداد الإسرائيلي واحتفالاتهم هم بتزويد العالم بسبب أو بأسباب للاحتفال من نوع «ضرب بني الإرهاب التحتية». وتقرر الحكومة الإسرائيلية اليوم بناء الجدار حول معاليه ادوميم، ويقول الوزير العمالي رامون أن الإدارة الأمريكية تعارض بناءه ولكنها لن تفعل شيئا بعد فك الارتباط.
لم يسكب هذا الكم من القطر السكري الدبق علي صفحات الصحف في دولة حديثة علي ما اذكر، كما في هذه الايام في الصحف الاسرائيلية، ولم يتم استخدام هذا الكم من التعابير القومية المتعصبة من قبل اليمين واليسار حول حداد اليهود ومنع صراع الإخوة وحول حوار الاخوة.. حتي العرب في أسوأ شطحاتهم الرومانسية القومية لم يعبروا عن رغبتهم في إعادة إنتاج القبيلة علي هذا النحو.
وأنا لا أضيع هنا سطرًا واحدًا