تهافت أَحكام العلم في إِحكام الإيمان..حديث فيما قبل وما بعد العاصفة!
يناير 2007
1 - لقاء هو بمثابة مقدمة:
يوم 28 كانون الثاني من العام 2004، نظمت الأكاديمية الكاثوليكية في ميونيخ لقاءً غير عادي بين الكاردينال جوزيف راتسنجر
المحـتــوي
1 - لقاء هو بمثابة مقدمة:
يوم 28 كانون الثاني من العام 2004، نظمت الأكاديمية الكاثوليكية في ميونيخ لقاءً غير عادي بين الكاردينال جوزيف راتسنجر (البابا بندكت السادس عشر حالياً) والفيلسوف الألماني، الأستاذ الجامعي يورجن هبرماس حول «الأسس الأخلاقية للدولة الليبرالية». وقد صدرت حتي اليوم في نسخ وكتيبات عدة تحت عناوين مختلفة أهمها «ديالكتيك العلمنة-عن العقل والدين»، كما نشرت في قضايا الأكاديمية الكاثوليكية في بافاريا(1).
وقد اخترنا أن نبدأ هذه المساهمة القصيرة والمتواضعة حول محاضرة البابا الأخيرة في 12 سبتمبر 2006 بهذا الحوار غير المألوف الذي جري قبل هذا التاريخ بعامين. وسوف يلاحظ القارئ أننا نقصد بذلك أن المحاضرة البابوية الأخيرة التي أثارت ضجة عارمة بسبب ما ادعي فيها البابا من علاقة بين المسيحية والعقلانية والتنوير بين الإسلام والسيف لم تأتِ عرضاً مثل زلة أو هفوة. وهي لم ترد مفارقةً، بل عبرت، برأينا، عن منهج مثابر ودأب قديم للبابا. والمسائل التي أثارتها لا تحل لا بالمظاهرات، ولا بطلب اعتذار. فما قيل ليس شتيمة لغرض الإهانة والتسفيه لكي تحل باعتذار. والمظاهرةُ، إصراراً علي الاعتذار والتنصل، لا تقنع أحداً بتغيير رأيه، بل ربما تقنعه أن الخطأ في توقيت قوله وشكله، أو البوح به.
كان المفاجئ في هذا اللقاء المثير بين مفكر علماني وآخر لاهوتي بهذا الحجم، هو تقاربهما في طرح بعض الأفكار والهموم والإجابات عنها، في ظل هموم المجتمع الأوروبي المعاصرة.
أكد هبرماس أن مصدر نشوء الدولة الحديثة هو عملية العلمنة، وأن مصدر الدولة الديمقراطية بالحقوق الليبرالية هو فلسفة التنوير من القرنين السابع عشر والثامن عشر ... ولكنه أفسح مجالاً لقول يكاد يكون بديهياً أن كل هذا جري في إطار صورة للعالم أنتجتها الديانة التوحيدية، وأن بعض التنظيرات القرسطوية اللاهوتية، وبخاصة الإسبانية المتأخرة، ذات علاقة بتطور فكرة حقوق الإنسان.
ولا بأس بإفراد مفكر علماني هذا الدور للتراث الفكري اللاهوتي ولصورة العالم التوحيدية, فهذا تطور بالنسبة لرؤيته العقلانية الخالصة للعالم. وهو علي كل حال يؤكد في النهاية أن الدولة الليبرالية الديمقراطية لم تعد بحاجة إلي هذا التاريخ ,قد أصبحت قادرة أن تعيد إنتاج وتطوير ذاتها ومبادئها بغض النظر عن جذورها التاريخية. ولكنه يتساءل: هل بإمكان الدولة أن تجعل الأفراد يعون حقوقهم وحرياتهم في هذه الدولة وأن يأخذوها بجدية؟ وهل تستطيع الدولة أن تغرس فيهم الدافع للدفاع عن هذه الحقوق والحريات والاستعداد للتضحية في سبيل ذلك أيضاً؟
من وجهة نظر هبرماس طرأ خلل كبير في التوازن بين وسائل الاتصال الكبري بين البشر في الدولة الحديثة، فقد حاصرت قوي السوق والقوي البيروقراطية (الإدارية) التضامن الإنساني وهمشته، وهنالك حاجة للتأكيد من جديد علي مسألة دوافع البشر. و«يعترف» هبرماس في مساهمته الحوارية أن العلمانية السائدة في أوروبا لم تعد وحدها كافية للتعامل مع مسألة الدوافع، وبخاصة الدافع للتضحية دفاعاً عن الحريات. كما يري أنه من الضروري أن تنفتح هذه الثقافة وتتفاعل وتكون جاهزة للإصغاء والتعلم من التقاليد والأفكار الدينية دون أفكار مسبقة. وكما يبدو من قراءة هبرماس المتأخر الذي نجده في هذا اللقاء لم تعد «الوطنية الدستورية» كافية، ولم يعد «الفعل التواصلي في الحيز العام» يلبي الحاجة كدافع عند من كتب آلاف الصفحات في شرح هذه المقولات. ربما فهم أن التضامن المنتج للحيز العام لا يصدر عن توقيع عقد، ولا عن قرار عقلاني بدخول عقد اجتماعي، كما يفهم بعض الليبراليين خطأً نظرية العقد الاجتماعي كعملية نشوء المجتمع والدولة الحديثين، بدلاً من نظرية في المجتمع والدولة الحديثين. الفيلسوف الذي انتقد فلسفة ما بعد الحداثة كحالة من تحلل العقل وكمدرسة تدفع الغرب باتجاه اللاعقلانية، يجد نفسه في حالة بحث عن تضامنات، وعن صمغ لاصق للمجتمع، وعن دوافع للأفراد للدفاع عن الحقوق والحريات غير الحريات ذاتها. وهو يبتدع في هذا الحوار مقولة «المجتمع ما بعد العلماني»، أو «ما بعد العلمانية»، وذلك للتأسيس لحوار مطلوب دون أفكار مسبقة مع الثقافة الدينية والرؤية الدينية برأيه.
ويفرح الكاردينال بهذا اللقاء الفكري المفاجئ مع البروفيسور. فهو أصلا يتحرك نحوه من الاتجاه الآخر، وذلك لتأسيس لقاء مع العلمانية والعقلانية الأوروبية، وباختصار مع التنوير الأوروبي. إنه يعرض خدمات الكنيسة لحل أزمات المجتمع الأوروبي الحديث بجعلها أحد الأوصياء علي مسألة الهوية الأوروبية في عصر صراع الثقافات، وهو يحاول أن يلائمها مع متطلبات المجتمع الحديث بالتأكيد علي عقلانية عقيدتها... وهو، برأينا المتواضع، يدخل في رهان خاسر، فما يجذب الشباب والناس إلي الأصوليات البروتستانتية والإنجيلية علي أنواعها في الولايات المتحدة، وما قد يجذبهم للكاثوليكية ويملأ كنائسها الفارغة في أوروبا الغربية، ويملأها فعلاً في أمريكا اللاتينية وبعض دول أوروبا الشرقية، هو ليس عقلانية أرسطية من أي نوع.
في محاضرته في هذا اللقاء، يؤكد الكاردينال راتسنجر علي ضرورة مواجهة التحديات الكبري التي تعصف بالإنسانية، وأولها العولمة والتقدم التقني اللذان أنتجا قوة تدميرية غير مسبوقة. وهدف تدخل الدين التنويري هو ألا يتجاوز الناس حدود الحياة ذات المعني. هنا يلزم برأيه التأكيد علي أن القاعدة الأخلاقية والروحية للحقوق تتجاوز الحقوق ذاتها إلي العقل والروحانيات، والتوفيق بينهما، وإلي وضع أسس لواجبات الناس وليس فقط حقوقهم. ويقول راتسنجر في مساهمته في هذا اللقاء إن الإنسانية لا تحتاج إلي الحرب الكبري لكي تدرك المخاطر التدميرية، ف«الإرهاب» وحده كفيل بإيضاحها.
وهنا يثور الكاردينال بشكل خاص ضد ذلك «الإرهاب الإسلامي» الذي يحاول أن يبرر نفسه أخلاقياً بشرح علاقات الاضطهاد القائمة، أو دينياً بالاستناد إلي نصوص، ويتساءل مستنتجاً: «ألا يجب أن يوضع الدين تحت عباءة العقل، وأن توضع له حدود؟». العقل يدفع الدين إلي المساهمة في نشر ثقافة التسامح والحرية. يدلي الكاردينال إذاً بدلو الكنيسة