عرب إسرائيل ..إشــكالية الـدولــة والهـوية... والآخـر
يونية 2009
ربما لم يكن لموضوع «عرب إسرائيل/ عرب 48» الأهمية ذاتها كما هى له الآن، أخذا فى الاعتبار مشاريع تسوية تتسرب مسوداتها، أو تصريحات وتلميحات نسمعها أو نقرؤها هنا وهناك. تتساوى فى ذلك ـ من حيث التحليل النهائى دعك من التفاصيل، آراء تسيبى ليفنى «الذاهبة» مع أفيجدور ليبرمان «القادم» من خلف الجدار الحديدى المتصلب لليمين الصهيونى القديم.
المحـتــوي
ربما لم يكن لموضوع «عرب إسرائيل/ عرب 48» الأهمية ذاتها كما هى له الآن، أخذا فى الاعتبار مشاريع تسوية تتسرب مسوداتها، أو تصريحات وتلميحات نسمعها أو نقرؤها هنا وهناك. تتساوى فى ذلك ـ من حيث التحليل النهائى دعك من التفاصيل، آراء تسيبى ليفنى «الذاهبة» مع أفيجدور ليبرمان «القادم» من خلف الجدار الحديدى المتصلب لليمين الصهيونى القديم.
هذا كتاب فى الموضوع، لكاتب ربما هو أول من طرح على الساحة الفكرية العربية قضية «عرب الداخل» وهو كتاب قديم جديد صدر بداية فى الداخل الفلسطيني، كان ذلك فى العام 1998 تحت عنوان «الخطاب السياسى المبتور»، ثم صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت فى العام 2000 طبعة ثانية. ثم ثالثة «مزيدة» فى العام 2008، بعد أن أضيف اليها فصلان أحدهما عن «يهودية الدولة». وهى المسألة التى كان كاتبنا «عزمى بشارة» قد طرحها غير مرة على هذه الصفحات من «وجهات نظر».
وهنا بعض مما يقدم به الكاتب لكتابه المهم.
المحــــرر
صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 1998. ماذا تغير بعد عشر سنوات؟
تضمن كتابنا الأول تحليلات نظرية بنيت عليها مواقف وشكلت مرشدا للتجربة العملية. فإضافة لقيمتها الأكاديمية، إذ اعتبرت تجديدا فى مقاربة مسألة العرب فى إسرائيل نظريا، فإن لها كما هى قيمة وثائقية أيضا بالنسبة لمن يرغب بدراسة نوع التحليل الذى قاد جهدنا السياسى فى عملية بناء الحركة الوطنية. وفى الواقع لم يتغير تحليلنا النظرى فى محاوره الرئيسية كثيرا. ونحن ندعى أن الأيام أثبتت صحة هذا التحليل، وأكثر من ذلك فقد تحقق الكثير من التوقعات التى يتضمنها. فالنموذج الذى طرحه سمح بتشخيص نزعات التطور المستقبلي، خاصة حول فعل صيرورتين متزامنتين فى المجتمع العربى فى الداخل:
1 ــ عملية أسرلة تتجلى فى نشوء ثقافة سياسية تابعة، ومشوهة، متولدة دون وساطة الوعى الوطني، أى متولدة مباشرة عن التهميش الاقتصادى الاجتماعى الحقوقى للعرب فى إطار كيان قام على أنقاض الشعب الفلسطيني، و2 ــ صيرورة تشكُّلٍ وطني. وتتولد هذه الصيرورة عن عملية إقصاء المجتمع والدولة الإسرائيليين للمواطنين العرب بفعل سياسة التمييز والعنصرية الإسرائيلية من جهة، وعن تشكل العرب والهوية العربية فى عملية تواصل لم ينقطع مع تاريخ البلاد وماضيها القريب ومع بقية أجزاء الشعب الفلسطينى والمنطقة العربية عموما من جهة أخري.
منذ تلك الفترة كانت مقاربتنا لموضوع الهوية فى هذا الكتاب أن الهوية ليست معطى أبديا بل نتاج اجتماعى ثقافى متشكل ومتغير. ولكنها ليست متشكلة ومتغيرة من لا شيء بل من عناصر قائمة.
لقد انطلق تحليلنا للعرب فى الداخل من:
1 ــ أنه لا يمكن أن نفهم مسألة عرب الداخل بنيويا فقط بتجرد عن تاريخ نشوء هذه المسألة، أى بتحليل بنية دولة إسرائيل كأنها دولة وطنية عادية، هى الدولة اليهودية، تعيش فيها أقلية عربية تتعرض للتمييز أو الإهمال (أو تعيش فيها أقليات دينية بموجب الخطاب الاستشراقى الصهيوني). فالعرب فى إسرائيل هم سكان البلاد الأصليون وهم جزء من الأمة العربية التى تعيش حالة صراع مع إسرائيل ومن الشعب الفلسطينى الذى تعرض لعملية سطو مسلح على أرضه شملت هدم مشروعه الوطني. وقد نشأت قضيتهم تاريخيا كجزء من القضية الفلسطينية، فلولا نشوء قضية اللاجئين لما نشأت مسألة «أقلية» عربية فى الداخل. أما الممارسات الإسرائيلية التى تتضمن مصادرة أراضى العرب فى الداخل ومحاصرتهم وتجميعهم ديموغرافيا، والعمل على إعادة تشكيل هويتهم الثقافية بما يتناسب مع احتوائهم كأقليات متنافرة متنازلة عن المساواة الكاملة وعن الشخصية العربية الكاملة فى دولة يهودية... هذه كلها ليست مجرد مركبات فى سياسة تمييز، بل هى جزء من سياسة تشكل استمرارا تاريخيا لمسألة استعمارية هى قضية فلسطين، وهى تضع لنفسها أيضا أهدافا تاريخية. فهى ما زالت تجرى وتنفَّذ بعقلية كولونيالية استيطانية إحلالية، وتتخذ أشكالا كولونيالية أيضا.
2 ــ أنه لا يمكن أن نفهم قضية عرب الداخل بالمنهج التاريخى وحده. إذ لا يكفى فهم تاريخ تشكل القضية الفلسطينية وكيفية تحول الفلسطينيين إلى أقلية فى بلدهم فى فهم واقعهم الحالي. يكفى هذا لفهم نشوء هذا الواقع، ولكن ليس لفهم الواقع ذاته. فهنالك ما يميز حاضرهم عن تاريخه، وإلا لما تميزوا عن بقية التجمعات الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات الفلسطيني. وهم يتميزون بأنهم خلافا لبقية الفلسطينيين تحولوا إلى جزء (غير مرحب به) من الكيان الذى قام على أرضهم، ولو على هامش اقتصاده، كما تحولوا رسميا إلى مواطنين، بصرف النظر الآن عن نوع هذه المواطنة ومن أية درجة هي... وقد أدى هذان الأمران سوية إلى تغيرات فى نمط السلوك السياسى والثقافة السياسية السائدة، خاصة أن 90% من المواطنين العرب فى الداخل ولدوا فى هذا الواقع الإسرائيلي، بما فيه من تغيرات ثقافية تمس حتى اللغة، أقصد لغة المخاطبة اليومية ولغة الصحافة واللغة السياسية، وتحول القرية إلى هامش اقتصادى للمدينة اليهودية... المفارقة الكبرى التى عاشها العرب فى الداخل أن عملية التحديث كانت فى الوقت ذاته عملية مصادرة وقطع أواصر العلاقة الاقتصادية مع الأرض وعملية تهميش، كما أن عملية التحديث ذاتها هى عملية إسرائيلية، وعملية أسرلة فى الوقت ذاته.
3 ــ كما انطلق من أن من قارب موضوع العرب فى الداخل بنيويا لم يخطئ منهجيا فى فهم تميُّزِهم (نقصد تميّزهم عن أقليات مهاجرة فى دول أوروبية مثلا) فحسب، ولم يتجاهل الطابع الكولونيالى لإسرائيل فحسب، بل قاده ذلك إلى طرح مسألة المساواة كما تطرح فى حالة المهاجرين فى الدول الديمقراطية، أى كمطلب اندماجي. ولا يوجد خيار اندماجى حقيقى أمام العرب فى دولةٍ، لا هى دولة مواطنين، ولا هى دولة تعترف ببنية ثنائية القومية. ومن ناحية أخري، فمن قارَبَ موضوع عرب الداخل من زاوية النظر التاريخية وحدها انتهى إلى عجز أمام فهم السلوك السياسى والثقافة السياسية السائدة عند عرب الداخل من التصويت إلى أحزاب صهيونية وحتى نشوء أحزاب وقوى «عربية إسرائيلية»، وإلى انعدام القدرة على طرح برنامج وطنى فى الظروف الخاصة لهذا المجتمع، لأنه ببساطة لم ير الخصوصية. وخصوصية العرب فى إسرائيل مقابل أقليات قومية وإثنية أخرى هى خصوصية تاريخية، وخصوصية عرب الداخل مقارنة مع بقية الفلسطينيين هى بنيوية الطابع وليست تاريخية فحسب.
وطبعا يمكننا من هنا أن نتشعب أكثر لنجد أن التاريخى بنيوى وإلا لما تحول إلى واقع قائم، كما أن البنيوى تاريخي، فتاريخه فاعل فى بنيته.
أ ــ بنية دولة إسرائيل تاريخية ليس فقط من حيث تطورها الاستيطانى بل أيضا فى تعريفها لنفسها كدولة يهودية فى الفكر والممارسة. وإذا طرح مطلب المساواة للغرب فى الداخل بشكل كامل دون مساومات على الحقوق، ودون التخلى عن الهوية الوطنية، هوية السكان الأصليين، فإنه لا بد أن يتناقض مع البنية القائمة للدولة وتعريفها لذاتها كدولة يهودية ومع الوظائف الناجمة عن هذا التعريف. من خلال هذا التناقض يتصل مطلب المساواة الكاملة فى دولة مواطنين مع القضية الوطنية الناشئة تاريخيا فى صراع مع الصهيونية.
ب ــ تأطرت تاريخية الحالة العربية فى الداخل فى البنية القائمة، ولذلك نشأ وضع يصاغ فيه خطاب وطنى ضمن الإطار القائم، ويتخذ شكل المطالبة بحقوق جماعية والاعتراف بالعرب كجماعة قومية هى جزء من الشعب الفلسطينى والأمة العربية، والمطالبة بحق وضع برامج التدريس العربية، وبتطوير الثقافة العربية.
4 ــ ينتج هذا الواقع الذى تجرى فيه صياغة المطالب المدنية الإسرائيلية بلغة وطنية فلسطينية وصياغة المطالب الوطنية الفلسطينية بلغة مدنية إسرائيلية كما هائلا من التناقضات والتشويهات... من الانضواء تحت لواء الأحزاب الصهيونية، وتشكُّلِ شخصية «العربى الإسرائيلي»، وحتى إقامة أحزاب عربية قولا وإسرائيلية فى الممارسة. لقد نشأت قوى سياسية ذات خطابين واحد بالعربية وآخر بالعبرية، كما نشأ فى ظل التنافس الانتخابى تحت السقف الإسرائيلى نواب الخدمات الذين يتوسطون بين مطالب المواطن الفرد والسلطة الإسرائيلية الحاكمة بلغتها، أما الموقف الوطنى عند هؤلاء فمسألة تُمَارسُ خطابةً فى الإعلام العربي. فالقوى السياسية «العربية الإسرائيلية» لا تتخلى عن الرغبة بكسب كافة العوالم، بما فيها خطاب الولاء لإسرائيل والخطاب النضالى الوطنى فى وسائل الإعلام العربية. ويبدو هذا السلوك ممكنا، خاصة أنه فى ظروف نشوء تيار فى الدول العربية المحيطة يجاهر بالتطبيع، و«يناضل» من أجل فرض تسوية غير عادلة على الفلسطينيين، فقد انتقل قسم من الرأى العام العربى من موقف خاطئ هو تخوين عرب الداخل إلى موقف خاطئ آخر هو اعتبار كل ما يقوله عربى بصوتٍ عالٍ داخل إسرائيل بطولة... مع أن ذلك يجرى فى دولة يتوفر فيها هامش واسع لحرية التعبير، ولا يكلِّفُ فيها الكلامُ كثيرا.
وكما ينتج هذا الواقع الملتبس وغير العادى تشويهات سياسية وثقافية تطيح بالتجربة العربية فى الداخل، كذلك قد ينتج حالة سياسية مركبة وغنية التجربة فى الوقت ذاته، إذا نجحت بالمحافظة على الهوية العربية الفلسطينية من جهة، وإذا عرفت كيف تعمل فى إطار المواطنة بتحويل خطاب الحقوق إلى خطاب معادٍ للصهيونية... وطبعا إذا كانت مستعدة لدفع الثمن. فهذا الموقف يشكل حالة نضالية. وهو لا يواجه مقاومة من المؤسسة الصهيونية الحاكمة فحسب، بل أيضا من قبل القوى السياسية العربية المحلية المحتواة فى فضاء سياسى ثقافى اجتماعى على هامش الدولة اليهودية والمرتبطة بالوضع القائم.